فصل: تفسير الآية رقم (124)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وهارون‏}‏ أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏115‏)‏‏}‏

‏{‏ونجيناهما وَقَوْمَهُمَا مِنَ الكرب العظيم‏}‏ هذا وما بعده من قبيل عطف الخاص على العام، والكرب العظيم تغلب فرعون ومن معه من القبط، وقيل الغرق وليس بذاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ‏(‏116‏)‏‏}‏

‏{‏ونصرناهم‏}‏ الضمير لهما مع القوم وقيل لهما فقط وجيء به ضمير جمع لتعظيمهما ‏{‏فَكَانُواْ هُمُ الغالبون‏}‏ بسبب ذلك على فرعون وقومه؛ و‏{‏هُمْ‏}‏ يجوز أن يكون فصلاً أو توكيداً أو بدلاً، والتنجية وإن كانت بحسب الوجود مقارنة لما ذكر من النصر لكنها لما كانت بحسب المفهوم عبارة عن التلخيص عن المكروه بدأ بها ثم بالنصر الذي يتحقق مدلوله بمحض تنجية المنصور من عدوه من غير تغلب عليه ثم بالغلبة لتوفية مقام الامتنان حقه بإظهار أن كل مرتبة من هذه المراتب الثلاث نعمة جليلة على حيالها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

‏{‏وءاتيناهما‏}‏ بعد ذلك ‏{‏الكتاب المستبين‏}‏ أي البليغ في البيان والتفصيل كما يشعر به زيادة البنية وهو التوراة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

‏{‏وهديناهما‏}‏ بذلك ‏{‏الصراط المستقيم‏}‏ الموصل إلى الحق والصواب بما فيه من تفاصيل الشرائع وتفاريع الأحكام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏119 - 122‏]‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏119‏)‏ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏120‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏121‏)‏ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الاخرين سلام على موسى وهارون إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين‏}‏ الكلام فيه نظير ما سبق في نظيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

قال الطبري‏:‏ هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى عليهما السلام فهو إسرائيلي من سبط هارون، وحكى القتيبي أنه من سبط يوشع، وحكى الطبرسي أنه ابن عم اليسع وأنه بعث بعد حزقي، وفي العجائب للكرماني أنه ذو الكفل، وعن وهب أنه عمر كما عمر الخضر ويبقى إلى فناء الدنيا‏.‏

وأخرج ابن عساكر عن الحسن أنه موكل بالفيافي والخضر بالبحار والجزائر وإنهما يجتمعان بالموسم في كل عام، وحديث اجتماعه مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأسفار وأكله معه من مائدة نزلت عليهما عليهما الصلاة والسلام من السماء هي خبز وحوت وكرفس وصلاتهما العصر معا رواه الحاكم عن أنس وقال‏:‏ هذا حديث صحيح الإسناد وكل ذلك من التعمير وما بعده لا يعول عليه‏.‏ وحديث الحاكم ضعفه البيهقي، وقال الذهبي‏.‏ موضوع قبح الله تعالى من وضعه ثم قال‏:‏ وما كنت أحسب ولا أجوز أن الجهل يبلغ بالحاكم إلى أن يصحح هذا، وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر وابن أبي حاتم‏.‏ وابن عساكر‏:‏ عن ابن مسعود أن إلياس هو إدريس، ونقل عنه أنه قرأ ‏{‏وَأَنْ إِدْرِيسَ لَمِنَ المرسلين‏}‏ والمستفيض عنه أنه قرأ كالجمهور نعم قرأ ابن وثاب‏.‏ والأعمش‏.‏ والمنهال بن عمرو‏.‏ والحكم لن عتيبة الكوفي كذلك‏.‏

وقرىء ‏{‏إدراس‏}‏ وهو لغة في إدريس كإبراهام في إبراهيم، وإذا فسر إلياس بإدريس على أن أحد اللفظين اسم والآخر لقب فإ كان المراد بهما من سمعت نسبه فلا بأس به وإن كان المراد بهما إدريس المشهور الذي رفعه الله تعالى مكاناً علياً وهو على ما قيل أخنوخ بن يزد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم وكان على ما ذكره المؤرخون قبل نوح، وفي المستدرك عن ابن عباس أن بينه وبين نوح ألف سنة، وعن وهب أنه جد نوح أشكل الأمر في قوله تعالى ‏{‏وتلك حجتُنَا ءاتيناها إبراهيم على قَوْمِهِ نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وسليمان وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وموسى وهارون وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مّنَ الصالحين وإسماعيل واليسع وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 83-86‏]‏ لأن ضمير ‏{‏ذُرّيَّتَهُ‏}‏ إما أن يكون لإبراهيم لأن الكلام فيه وإما أن يكون لنوح لأنه أقرب ولأن يونس ولوطاً ليسا من ذرية إبراهيم، وعلى التقديرين لا يتسنى نظم إلياس المراد به الذي هو قبل نوح على ما مسعت في عداد الذرية، ويرد على القول بالاتحاد مطلقاً أنه خلاف الظاهر فلا تغفل‏.‏

وقرأ عكرمة‏.‏ والحسن بخلاف عنهما‏.‏ والأعرج‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ وابن عامر‏.‏ وابن محيصن ‏{‏وَإِنَّ إِلْيَاسَ‏}‏ بوصل الهمزة فاحتمل أن يكون قد وصل همزة القطع واحتمل أن يكون اسمه يأساً ودخلت عليه أل كما قيل في اليسع، وفي حرف أبي ومصحفه و‏{‏ءانٍ‏}‏ إيليس بهمزة مكسورة بعدها ياء أيضاً ساكنة آخر الحروف بعدها لام مكسورة بعدها ياء أيضاً ساكنة وسين مهملة مفتوحة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ‏}‏ وهم على المشهور في الياس سبط من بني إسرائيل أسكنهم يوشع لما فتح الشام المدينة المعروفة اليوم ببعلبك وزعم بعضهم أنها كانت تسمى بكة وقيل بك بلا هاء ثم سميت بما عرف على طريق التركيب المزجي، و‏{‏إِذْ‏}‏ عند جمع مفعول اذكر محذوفاً أي اذكر وقت قوله لقومه ‏{‏أَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ عذاب اللهتعالى ونقمته بامثتال أوامره واجتناب نواهيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

‏{‏أَتَدْعُونَ بَعْلاً‏}‏ أي أتعبدونه أو تطلبون حاجكم منه، وهو اسم صنم لهم كما قال الضحاك‏.‏ والحسن وابن زيد، وفي بعض نسخ القاموس أنه لقوم يونس، ولا مانع من أن يكون لهما أو ذلك تحريف، قيل وكان من ذهب طوله عشرون ذراعاً وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه فكان الشيطان يدخل في جوفه ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وقيل هو اسم امرأة أتتهم بضلالة فاتبعوها واستؤنس له بقراءة بعضهم، ‏{‏بعلاء‏}‏ بالمد على وزن حمراء، وظاهر صرفه أنه عربي على القولين فلا تغفل‏.‏

وقال عكرمة‏.‏ وقتادة، البعل الرب بلغة اليمن‏:‏ وفي رواية أخرى عن قتادة بلغة أزد شنوءة، واستام ابن عباس ناقة رجل من حمير فقال‏:‏ له أنت صاحبها‏؟‏ قال‏:‏ بعلها فقال ابن عباس أتدعون بعلا‏:‏ أتدعون ربما من أنت‏؟‏ قال‏:‏ من حمير، والمراد عليها أتدعون بعض البعول أي الأرباب والمراد بها الأصنام أو المعبودات الباطلة فالتنكير للتبعيض فيرجع لما قيل قبله ‏{‏بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين‏}‏ أي وتتركون عبادته تعالى أو طلب جميع حاجكم منه عز وجل على أن الكلام على حذف مضاف؛ وقيل إن المراد بتركهم إياه سبحانه تركهم عبادته عز وجل والمراد بالخالق من يطلق عليه ذلك، وله بهذا الاعتبار أفراد وان اختلفت جهة الاطلاق فيها فلا اشكال في إضافة افعل إلى ما بعده، وهاهنا سؤال مشهور وهو ما وجه العدول عن تدعون بفتح التاء والدال مضارع ودع بمعنى ترك إلى ‏{‏تذرون‏}‏ مع مناسبته ومجانسته لتدعون قبله دون تذرون وأجيب عن ذلك بأجوبة‏.‏ الأول أن في ذلك نوع تكلف والجناس المتكلف غير ممدوح عند البلغاء ولا يمدح عندهم ما لم يجىء عفوا بطريق الاقتضاء ولذا ذموا متكلفه فقيل فيه‏:‏ طبع المجنس فيه نوع قيادة *** أو ما ترى تأليفه للأحرف

قاله الخفاجي، وفي كون هذا البيت في خصوص المتكلف نظر وبعد فيه ما فيه، الثاني أن في تدعون إلباساً على من يقرأ من المصحف دون حفظ من العوام بأن يقرأه كتدعون الأول ويظن أن المراد إنكار بين دعاء بعل ودعاء احسن الخالقين، وليس بالوجه إذ ليس من سنة الكتاب ترك ما يلبس على العوام كما لا يخفى على الخواص‏.‏

والصحابة أيضاً لم يراعوهم وإلا لما كتبوا المصحف غير منقوط ولا ذا شكل كما هو المعروف اليوم، وفي بقاء الرسم العثماني معتبراً إلى انقضاء الصحابة ما يؤيد ما قلنا، والثالث أن التجنيس تحسين وإنما يستعمل في مقام الرضا والإحسان لا في مقام الغضب والتهويل، وفيه أنه وقع فيما نفاه قال تعالبى‏:‏

‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 55‏]‏ وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏يكاد سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالابصار يُقَلّبُ الله اليل والنهار إِنَّ فِى ذلك لَعِبْرَةً لاوْلِى الابصار‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 43، 44‏]‏ وفيهما الجناس التام ولا يخفى حال المقام، الرابع ما نقل عن الإمام فإنه سئل عن سبب ترك تدعون إلى ‏{‏تذرون‏}‏ فقال‏:‏ ترك لأنهم اتخذوا الأصنام آلهة وتركوا الله تعالى بعدما علموا أن الله سبحانه ربهم ورب ابائهم الأولين استكباراً فلذلك قيل‏:‏ ‏{‏بَعْلاً وَتَذَرُونَ‏}‏ ولم يقل وتدعون، وفيه القول بأن دع أمر بالترك قبل العلم وذر أمر بالترك بعده ولا تساعده اللغة والاشتقاق، الخامس أن لانكار كل من فعلى دعاء بعل وترك احسن الخالقين علة غير علة إنكار الآخر فترك التجنيس رمزاً إلى شدة المغايرة بين الفعلين، السادس أنه لما لم يكن مجانسة بين المفعولين بوجه من الوجوه ترك التجنيس في الفعلين المتعلقين بهما وإن كانت المجانسة المنفية بين المفعولين شيئاً والمجانسة التي نحن بصددها بين الفعلين شيئاً آخر، وكلا الجوابين كما ترى، السابع أن يدع إنما استعملته العرب في الترك الذي لا يذم مرتكبه لأنه من الدعة بمعنى الراحة ويذر بخلافه لأنه يتضمن إهانة وعدم اعتداد لأنه من الوذر قطعة اللحم الحقيرة التي لا يعتد بها‏.‏ واعترض بأن المتبادر من قوله بخلافه أن يذر إنما استعملته العرب في الترك الذي يذم مرتكبه فيرد عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112، 137‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرباا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278‏]‏ إلى غير ذلك وفيه تأمل‏.‏ الثامن أن يدع أخص من يذر لأنه بمعنى ترك الشيء مع اعتناء به بشهادة الاشتقاق نحو الإيداع فإنه ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها ولهذا يختار لها من هو مؤتمن عليها ونحوه موادعة الأحباب وأما يذر فمعناه الترك مطلقاً أو مع الأعراض والرفض الكلي، قال الراغب‏:‏ يقال فلأن يذر الشيء أي يقذفه لقلة الاعتداد به ومنه الوذر وهو ما سمعت آنفاً، ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول إذ المراد تبشيع حالهم في الاعراض عن ربهم وهو قريب من سابقه لكنه سالم عن بعض ما فيه، التاسع أن في تدعون بفتح التاء والتدال ثقلاً ما لا يخفى على ذي الذوق السليم والطبع المستقيم ‏{‏وَتَذَرُونَ‏}‏ سالم عنه فلذا اختير عليه فتأمل والله تعالى أعلم، وقد أشار سبحانه وتعالى بقوله‏:‏‏}‏ أحسن الخالقين‏}‏ إلى المقتضى للإنكار المعنى بالهمز وصرح به للاعتناء بشأنه في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

‏{‏الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءابَائِكُمُ الاولين‏}‏ بالنصب على البدلية من ‏{‏أحسن الخالقين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 125‏]‏، قال أبو حيان‏:‏ ويجوز كون ذاك عطف بيان إن قلنا إن إضافة أفعل التفضيلل محضة، وقرأ غير واحد من السبعة بالرفع على أن الاسم الجليل مبتدأ و‏{‏رَبُّكُمْ‏}‏ خبره أو هو خبر مبتدأ محذوف وربكم عطف بيان أو بدل منه، وروي عن حمزة أنه إذا وصل نصب وإذا وقف رفع، والتعرض لذكر ربوبيته تعالى لآبائهم الأولين لتأكيد إنكار تركهم إياه تعالى والأشعار ببطلان آراء آبائهم أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ‏}‏ فيما تضمنه كلامه من إيجاب الله تعالى التوحيد وتحريمه سبحانه الإشراك وتعذيبه تعالى عليه، وجوز أن يكون تكذيبهم راجعاً إلى ما تضمنه قوله ‏{‏الله ربكم‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 126‏]‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ‏}‏ بسبب ذلك ‏{‏لَمُحْضَرُونَ‏}‏ أي في العذاب وإنما اطلقه اكتفاء بالقرينة أو لأن الاحضار المطلق مخصوص بالشر في العرف العام أو حيث استعمل في القرآن لاشعاره بالجبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ عَبْدٌ الله المخلصين‏}‏ استثناء متصل من الواو في كذبوه فيدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه، ومنع كونه استثناء متصلاً من ضيمر ‏{‏مُحْضَرُونَ‏}‏ لأنه للمكذبين فإذا استثنى منه اقتضى أنهم كذبوه ولم يحضروا وفساده ظاهر، وقيل‏:‏ لأنه إذا لم يستثن من ضمير كذبوا كانوا كلهم مكذبين فليس فيهم مخلص فضلاً عن مخلصين ومآله ما ذكر، لكن اعترضه ابن كمال بأنه لا فساد فيه لأن استثناءهم من القوم المحضرين لعدم تكذيبهم على ما دل عليه التوصيف بالمخلصين لا من المكذبين فمآل المعنى واحد‏.‏

ورد بأن ضمير محضرين للقوم كضمير كذبوا، وقال الخفاجي‏:‏ لا يهفى أن اختصاص الاحضار بالعذاب كما صرح به غير واحد يعين كون ضمير محضرين للمكذبين لا لمطلق القوم فإن لم يسلمه فهو أمر آخر، وفي البحر ولا يناسب أن يكون استثناء منقطعاً إذ يصير المعنى لكن عباد الله المخلصين من غير قومه لا يحضرون في العذاب وفيه بحث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏129 - 132‏]‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏129‏)‏ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ‏(‏130‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏131‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخرين سلام على إِلْ يَاسِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين‏}‏ الكلام فيه كما في تظيره بيد أنه يقال ههنا إن ال ياسين لغة في الياس وكثيراً ما يتصرفون في الأسماء الغير العربية‏.‏ وفي الكشاف لعل لزيادة الياء والنون معنى في اللغة السريانية، ومن هذا الباب سيناء وسينين، واختار هذه اللغة هنا رعاية للفواصل، وقيل‏:‏ هو جمع إلياس على طريق التغليب بإطلاقه على قومه وأتباعه كالمهلبين للمهلب وقومه‏.‏

وضعف بما ذكر النحاة من أن العلم إذا جمع أو ثنى وجب تعريفه باللام جبراً لما فاته من العلمية، ولا فرق فيه بين ما فيه تغليب وبين غيره كما صرح به ابن الحاجب في «شرح المفصل»، لكن هذا غير متفق عليه، قال ابن يعيش في «شرح المفصل»‏:‏ يجوز استعماله نكرة بعد التثنية والجمع نحو زيدان كريمان وزيدون كريمون؛ وهو مختار الشيخ عبد القاهر وقد أشبعوا الكلام على ذلك في مفصلات كتب النحو، ثم أن هذا البحث إنما يتأتى مع من لم يجعل لام الياس للتعريف أما من جعها له فلا يتأتى البحث معه، وقيل‏:‏ هو جمع الياسي بياء النسبة فخفف لاجتماع الياآتفي الجر والنصب كما قيل اعجمين في أعجميين وأشعرين في أشعريين، والمراد بالياسين قوم الياس المخلصون فإنهم الأحقاء بأن ينسبوا إليه، وضعف بقلة ذلك والباسه بالياس إذا جمع وإن قيل‏:‏ حذف لام الياس مزيل للإلباس، وأيضاً هو غير مناسب للسياق والسباق إذ لم يذكر آل أحد من الأنبياء‏.‏

وقرأ نافع‏.‏ وابن عامر‏.‏ ويعقوب‏.‏ وزيد بن علي ‏{‏إِلْ يَاسِينَ‏}‏ بالإضافة، وكتب في المصحف العثماني منفصلاً ففيه نوع تأييد لهذه القراءة، وخرجت عن أن ياسين اسم أبي الياس ويحمل الآل على الياس وفي الكناية عنه تفخيم له كما في آل إبراهيم عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وجوز أن يكون الآل مقحماً على أن ياسين هو الياس نفسه‏.‏

وقيل‏:‏ ياسين فيها اسم لمحمد صلى الله عليه وسلم فآل ياسين آله عليه الصلاة والسلام، أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في ‏{‏سلام على إِلْ يَاسِينَ‏}‏ نحن آل محمد آل ياسين، وهو ظاهر في جعل ياسين اسمالً له صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ هو اسم للسورة المعروفة، وقيل‏:‏ اسم للقرآن فآل ياسين هذه الأمة المحمدية أو خواصها‏.‏

وقيل‏:‏ اسم لغير القررن من الكتب، ولا يخفى عليك أن السياق والسباق يا بيان أكثر هذه الأقوال‏.‏

وقرأ أبو رجاء‏.‏ والحسن ‏{‏على‏}‏ بوصل الهمزة وتخريجها يعلم مما مر‏.‏ وقرى ابن مسعود ومن قرأ معه فيما سبق ادريس ‏{‏سلام على‏}‏ وعن قتادة ‏{‏وَأَنْ إِدْرِيسَ‏}‏ وقرأ ‏{‏على‏}‏ وقرأ أبي ‏{‏على‏}‏ كما قرأ ‏{‏وَأَنْ وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏133 - 136‏]‏

‏{‏وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏133‏)‏ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏134‏)‏ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ‏(‏135‏)‏ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين إِذْ نجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الغابرين ثُمَّ دَمَّرْنَا الاخرين‏}‏ سبق بيانه في الشعراء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏137‏]‏

‏{‏وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ‏(‏137‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّكُمْ‏}‏ يا أهل مكة ‏{‏لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ‏}‏ على منازلهم في متاجركم إلى الشام فإن سذوم في طريقه ‏{‏مُّصْبِحِينَ‏}‏ داخلين في الصباح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏138‏]‏

‏{‏وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏138‏)‏‏}‏

وَباللَّيْل‏}‏ قيل أي ومساء بأن يراد بالليل أوله لأنه زمان السير ولوقوعه مقابل الصباح، وقيل‏:‏ أي نهاراً وليلاً وهو تأويل قبل الحاجة ولذا اختير الأول، ووجه التخصيص عليه بأنه لعل سدوم وقعت قريب منزل يمر بها المرتحل عنه صباحاً والقاصد مساء، وقال بعض الأجلة‏:‏ لو أبقى على ظاهره لأن ديار العرب لحرها يسافر فيها في الليل إلى الصباح خلا عن التكلف في توجيه المقابلة ‏{‏‏}‏ قيل أي ومساء بأن يراد بالليل أوله لأنه زمان السير ولوقوعه مقابل الصباح، وقيل‏:‏ أي نهاراً وليلاً وهو تأويل قبل الحاجة ولذا اختير الأول، ووجه التخصيص عليه بأنه لعل سدوم وقعت قريب منزل يمر بها المرتحل عنه صباحاً والقاصد مساء، وقال بعض الأجلة‏:‏ لو أبقى على ظاهره لأن ديار العرب لحرها يسافر فيها في الليل إلى الصباح خلا عن التكلف في توجيه المقابلة ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتى تعتبروا به وتخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم فإن منشأ ذلك مخالفتهم رسولهم ومخالفة الرسول قدر مشترك بينكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏139‏]‏

‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏139‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين‏}‏ يروى على ما في البحر أنه عليه السلام نبىء وهو ابن ثمان وعشرين سنة، وحكى في البحر أنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس وهو ابن متى بفتح الميم وتشديد التاء القوقية مقصور، وهل هذا اسم أمه أو أبيه فيه خلاف فقيل اسم امه وهو المذكور في تفسير عبد الرزاق، وقيل‏:‏ اسم أبيه وهذا كما قال ابن حجر أصح، وبعض أهل الكتاب يسميه يونان ابن ماثي، وبعضهم يسميه يونه ابن امتياي؛ ولم نقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وفي اسمه عند العرب ست لغات تثليث النون مع الواو والياء والهمزة، والقراءة المشهورة بضم النون مع الواو‏.‏ وقرأ أبو طلحة بن مصرف بكسر النون قيل أراد أن يجعله عربياً مشتقاً من أنس وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏140‏]‏

‏{‏إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏140‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ أَبَقَ‏}‏ هرب، وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير اذن ربه كما هو الأنسب بحال الأنبياء عليهم السلام حسن اطلاقه عليه فهو إما استعارة أو مجاز مرسل من استعمال المقيد في المطلق، والأول أبلغ، وقال بعض الكمل‏:‏ الاباق الفرار من السيد بحيث لا يهتدي إليه طالب أي بهذا القصد، وكان عليه السلام هرب من قومه بغير اذن ربه سبحانه إلى حيث طلبوه فلم يحده فاستعير الاباق لهربه باعتبار هذا القيد لا باعتبار القيد الأول، وفيه بعد تسليم اعتبار هذا القيد على ما ذكره بعض أهل اللغة أنه لا مانع من اعتبار ذلك القيد فلا اعتبار بنفي اعتباره ‏{‏إِلَى الفلك المشحون‏}‏ المملوء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

‏{‏فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

‏{‏فساهم‏}‏ فقارع عليه السلام من في الفلك واستدل به من قال بمشروعية القرعة ‏{‏فَكَانَ مِنَ المدحضين‏}‏ فصار من المغلوبين بالقرعة، وأصله المزلق اسم مفعول عن مقام الظفر‏.‏

يروى أنه وعد قومه العذاب وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام فلما كان اليوم الثالث خرج يونس قبل أن يأذن الله تعالى له ففقده قومه فخرجوا بالكبير والصغير والدواب وفرقوا بين كل والدة وولدها فشارف نزول العذاب بهم فعجوا إلى الله تعالى وأنابوا واستقالوا فأقالهم الله تعالى وصرف عنهم العذاب فلما لم يريونس نزول العذاب استحى أن يرجع إليهم وقال‏:‏ لا أرجع إليهم كذاباً أبداً ومضى على وجهه فأتى سفينة فركبها فلما وصلت اللجة وقفت فلم تسر فقال صاحبها‏.‏ ما يمنعها أن تيسر إلا أن فيكم رجلاً مشؤوناً فاقترعوا ليلقوا من وقعت عليه القرعة في الماء فوقعت على يونس ثم أعادوا فوقعت عليه ثم أعادوا فوقعت عليه فلما رأى ذلك رمى بنفسه في الماء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

‏{‏فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏142‏)‏‏}‏

‏{‏فالتقمه الحوت‏}‏ أي ابتلعه من اللقمة، وفي خبر أخرجه أحمد‏.‏ وغيره عن ابن مسعود أنه أتى قوماً في سفينة فحملوه وعرفوه فلما دخلها ركدت والسفن تسير يميناً وسمالاً فقال‏:‏ ما بال سفينتكم‏؟‏ قالوا‏:‏ ما ندري قال‏:‏ ولكني أدري إن فيها عبداً آبق من ربه وإنها والله لا تسير حتى تلقوه قالوا‏:‏ أما أنت والله يا نبي الله فلا نلقيك فقال لهم‏:‏ اقترعوا فمن قرع فليلق فاقترعوا ثلاث مرات وفي كل مرة تقع القرعة عليه فرمى بنفسه فكان ما قص الله تعالى‏.‏ وكيفية اقتراعهم على ما في البحر عن ابن مسعود أنهم أخذوا لكل سهماً على أن من طفا سهمه فهو ومن غرق سهمه فليس إياه فطفا سهم يونس‏.‏ وروي أنه لما وقف على شفير السفينة ليرمي بنفسه رأى حوتاً واسمه على ما أخرج ابن أبي حاتم وجماعة عن قتادة نجم قد رفع رأسه من المار قدر ثلاثة أذرع يرقبه ويترصده فذهب إلى ركن آخر فاستقبله الحوت فانتقل إلى آخر فوجده وهكذا حتى استدار بالسفينة فلما رأى ذلك عرف أنه أمر من الله تعالى فطرح نفسه فأخذه أن يصل إلى الماء ‏{‏وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏ أي داخل في الملامة على أن بناء افعل للدخول في الشيء نحو أحرم إذا دخل الحرم أو آت بما يلام عليه على أن الهمزة فيه للصيرورة نحو أغد البعير أي صار ذا غدة فهو هنا لما أتى بما يستحق اللوم عليه صار ذا لوم أو مليم نفسه على أن الهمزة فيه للتعدية نحو أقدمته والمفعول محذوف، وما روي عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد من تفسيره بالمسيء والمذنب فبيان لحاصل المعنى وحسنات الأبرار سيئات المقربين‏.‏ وقرىء ‏{‏مُلِيمٌ‏}‏ بفتح أوله اسم مفعول وقياسه ملوم لأنه واوي يقال لمته ألومه لوماً لكنه جيء به على ليم كما قالوا مشيب ومدعى في مشوب ومدعو بناء على شيب ودعى وذلك أنه لما قلبت الواو ياء في المجهول جعل كالأصل فحمل الوصف عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏143‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ‏(‏143‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين‏}‏ أي من الذاكرين الله تعالى كثيراً بالتسبيح كما قيل، وفي كلام قتادة ما يشعر باعتبار الكثرة، واستفادتها على ما قال الخفاجي من جعله من المسبحين دون أن يقال مسبحاً فإنه يشعر بأنه عريق فيهم منسوب إليهم معدود في عدادهم ومثله يستلزم الكثرة، وقيل‏:‏ من التفعيل‏.‏ ورد بأن معنى سبح لم يعتبر فيه ذلك إذ هو قال سبحان الله، وقد يقال‏:‏ هي من إرادة الثبوت من ‏{‏المسبحين‏}‏ فإنه يشعر بأن التسبيح ديدن لهم، والمراد بالتسبيح ههنا حقيقته وهو القول المذكور أو ما في معنها وروي ذلك عن ابن جبير‏.‏

وهذا الكون عند بعض قبل التقام الحوت إياه أيام الرخاء، واستظهر أبو حيان أنه في بطن الحوت وأن التسبيح ما ذكره الله تعالى في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فنادى فِى الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏ وحمله بعضهم على الذكر مطلقاً وبعض آخر على العبادة كذلك، وجماعة منهم ابن عباس على الصلاة بل روي عنه أنه قال‏:‏ كل ما في القرآن من التسبيح فهو بمعنى الصلاة، وأنت تعلم أنه إن كان اللفظ فيما ذكر حقيقة شرعية ولم يكن للتسبيح حقيقة أخرى شرعية أيضاً لم يحتج إلى قرينة، وإن كان مجازاً أو كان للتسبيح حقيقة شرعية أخرى احتيج إلى قرينة فإن وجدت فذاك وإلا فالأمر غير خفي عليك، وكما اختلف في زمان التسبيح بالمعنى السابق اختلف في زمانه بالمعاني الأخر‏.‏ أخرج أحمد في الزهد‏.‏ وغيره عن ابن جبير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين‏}‏ قال‏:‏ من المصلين قبل أن يدخل بطن الحوت، وأخرج أحمد وغيره أيضاً عن الحسن في الآية قال‏:‏ ما كان إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت فذكر ذلك لقتادة فقال‏:‏ لا إنما كان يعمل في الرخاء، وروي عن الحسن غير ما ذكر، فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم‏.‏ والبيهقي في شعب الإيمان‏.‏ والحاكم أنه قال في الآية‏:‏ كان يكثر الصلاة في الرخاء فلما حصل في بطن الحوت ظن أنه الموت فحرك رجليه فإذا هي تتحرك فسجد وقال‏:‏ يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يسجد فيه أحد‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك بن قيس قال‏:‏ اذكروا الله تعالى في الرخاء يذكركم في الشدة فإن يونس عليه السلام كان عبداً صالحاً ذاكراً لله تعالى فلما وقع بطن الحوت قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين‏}‏ الخ وإن فرعون كان عبداً طاغياً ناسياً لذكر الله تعالى فلما أدركه الغرق قال‏:‏ ‏{‏آمنت أن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏ فقيل له ‏{‏ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 91‏]‏

والأولى حمل زمان كونه من المسبحين على ما يعم زمان الرخاء وزمان كونه في بطن الحوت فإن لاتصافه بذلك في كلا الزمانين مدخلاً في خروجه من بطن الحوت المفهوم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏144‏]‏

‏{‏لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

‏{‏لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ كما يشعر به ما في حديث أخرجه عبد الرزاق‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن أنس مرفوعاً من أنه عليه السلام لما التقمه الحوت وهوى به حتى انتهى إلى ما انتهى من الأرض سمع تسبيح الأرض فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فأقبلت الدعوة نحو العرش فقالت الملائكة‏:‏ يا ربنا انا نسمع صوتاً ضعيفاً من بلاد غربة قال سبحانه‏:‏ وما تدرون كم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا يا ربنا قال‏:‏ ذاك عبدي يونس قالوا‏:‏ الذي كنا لا نزال نرفع له عملاً متثبلاً ودعوة مجابة‏؟‏ قال‏:‏ نعم قالوا‏:‏ يا ربنا ألا ترحم ما كان يصنع في الرخاء وتنجيه عند البلاء‏؟‏ قال‏:‏ بلى فأمر عز وجل الحوت فلفظه‏.‏

واستظهر أبو حيان أن المراد بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ‏}‏ الخ لبقي في بطنه حياً إلى يوم البعث وبه أقول‏.‏ وتعقب بأنه ينافيه ما ورد من أنه لا يبقى عند النفخة الأولى ذو روح من البشر والحيوان في البر والبحر‏.‏ وأجيب بعد تسليم ورود ذلك أو ما يدل عليه بأنه مبالغة في طول المدة مع أنه في حيز لو فلا يرد رأساً أو المراد بوقت البعث ما يشتمل زمان النفخة لأنه من مقدماته فكأنه منه، وعن قتادة لكان بطن الحوت قبراً له، وظاهره أنه أريد للبث ميتاً في بطنه إلى يوم البعث، ولا مانع من بقاء بنية الحوت كبنيته من غير تسلط البلاء إلى ذلك اليوم، وضمير ‏{‏يُبْعَثُونَ‏}‏ لغير مذكور وهو ظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏145‏]‏

‏{‏فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ‏(‏145‏)‏‏}‏

‏{‏فنبذناه‏}‏ بأن حملنا الحوت على لفظه فالإسناد مجازي، والنبذ على ما في «القاموس» طرحك الشيء أماماً أو وراء أو هو عام‏.‏

وقال الراغب‏:‏ النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به، والمراد به هنا الطرح والرمي والقيد الذي ذكره الراغب لا أرغب فيه فإنه عليه السلام وإن أبق وخرج من غير إذن مولاه واعتراه من تأديبه تعالى ما اعتراه فالرب عز وجل بأنبيائه رحيم وله سبحانه في كل شأن اعتداد بهم عظيم فهو عليه السلام معتد به في حال الإلقاء وإن كان ذلك ‏{‏بالعراء‏}‏ أي بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت، يروى أن الحوت سار مع السفينة رافعاً رأسه يتنفس ويونس يسبح حتى انتهوا إلى البر فلفظه‏.‏ ورد بأنه يأباه قوله تعالى ‏{‏فنادى فِى الظلمات‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏ وأجيب بأنه بمجرد رفع رأسه للتنفس لا يخرج منها، ثم إن هذا لئلا يختنق يونس أو تنحصر نفسه بحكم العادة لا ليمتنع دخول الماء جوف الحوت حتى يقال السمك لا يحتاج لذلك، ومع هذا نحن لا نجزم بصحة الخبر فقد روى أيضاً أنه طاف به البحار كلها ثم نبذه على شط دجلة قريب نينوى بكسر النون الأولى وضم الثانية كما في «الكشف» من أرض الموصل، والالتقام كان في دجلة أيضاً على ما صرح به البعض وخالف فيه أهل الكتاب، وسيأتي إن شاء الله تعالى نقل كلامهم لك في هذه القصة لتقف على ما فيه‏.‏

والظاهر أن الحوت من حيتان دجلة أيضاً وقد شاهدنا فيها حيتاناً عظيمة جداً، وقيل كان من حيتان النيل‏.‏ أخرج ابن أبي شيبة عن وهب أنه جلس هو وطاوس ونحوهما من أهل ذلك الزمان فذكروا أي أمر الله تعالى أسرع‏؟‏ فقال بعضهم‏:‏ قول الله تعالى ‏{‏كَلَمْحِ البصر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 77‏]‏ وقال بعضهم‏:‏ السرير حين أتى به سليمان، وقال وهب‏:‏ أسرع أمر الله تعالى أن يونس على حافة السفينة إذ أوحى الله سبحانه إلى نون في نيل مصر فما خر من حافتها إلا في جوفه، ولا شبهة في ان قدرة الله عز وجل أعظم من ذلك لكن الشبهة في صحة الخبر وكأني بك تقول لا شبهة في عدم صحته‏.‏ واختلف في مدة لبثه فأخرج عبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد»‏.‏ وغيره عن الشعبي‏.‏ قال‏:‏ التقمه الحوت ضحى ولفظه عشية وكأنه أراد حين أظلم الليل، وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وغيره عن قتادة قال‏:‏ إنه لبث في جوفه ثلاثاً، وفي كتب أهل الكتاب ثلاثة أيام وثلاث ليال، وعن عطاء وابن جبير سبعة أيام، وعن الضحاك عشرين يوماً، وعن ابن عباس‏.‏ وابن جرير‏.‏ وأبي مالك‏.‏ والسدي‏.‏ ومقاتل بن سليمان‏.‏ والكلبي‏.‏ وعكرمة أربعين يوماً، وفي «البحر» ما يدل على أنه لم يصح خبر في مدة لبثه عليه السلام في بطن الحوت ‏{‏وَهُوَ سَقِيمٌ‏}‏ مما ناله، قال ابن عباس‏.‏ والسدي‏:‏ إنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد، وعن ابن جبير أنه عليه السلام ألقى ولا شعر له ولا جلد ولا ظفر، ولعل ذلك يستدعي بحكم العادة أن لمدة لبثه في بطن الحوت طولاً ما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ‏(‏146‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ‏}‏ أي أنبتناها مطلة عليه مظلة له كالخيمة فعليه حال من ‏{‏شَجَرَةٍ‏}‏ قدمت عليها لأنها نكرة، واليقطين يفعيل من قطن بالمكان إذا قام به، وزاد الطبرسي إقامة زائل لا إقامة راسخ، والمراد به على ما جاء عن الحسن السبط‏.‏ وابن عباس في رواية‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وأبي هريرة‏.‏ وعمرو بن ميمون‏.‏ وقتادة‏.‏ وعكرمة‏.‏ وابن جبير‏.‏ ومجاهد في إحدى الروايتين عنهما الدباء وهو القرع المعروف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وأنبتها الله تعالى مطلة عليه لأنها تجمع خصالاً برد الظل والملمس وعظم الورق وأن الذباب لا يقع عليها على ما قيل، وكان عليه السلام لرقة جلده بمكثه في بطن الحوت يؤذيه الذباب ومماسة ما فيه خشونة ويؤلمه حر الشمس ويستطيب بارد الظل فلطف الله تعالى به بذلك، وذكر أن ورق القرع أنفع شيء لمن ينسلخ جلده؛ واشتهر أن الشجر ما كان على ساق من عود فيشكل تفسير الشجرة هنا بالدباء‏.‏

وأجاب أبو حيان بأنه يحتمل أن الله تعالى أنبتها على ساق لتظله خرقاً للعادة، وقال الكرماني‏:‏ العامة تخصص الشجر بما له ساق، وعند العرب كل شيء له أرومة تبقى فهو شجر وغيره نجم، ويشهد له قول أفصح الفصحاء صلى الله عليه وسلم شجرة الثوم انتهى‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ لك أن تقول أصل معناه ما له أرومة لكنه غلب في عرف أهل اللغة على ما له ساق وأغصان فإذا أطلق يتبادر منه المعنى الثاني وإذا قيد كما هنا‏.‏

وفي الحديث يرد على أصله وهو الظاهر، ثم ذكر أن ما قاله أبو حيان تمحل في محل لا مجال للرأي فيه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن جرير عن ابن جبير أنه قال‏:‏ كل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين والذي يكون على وجه الأرض من البطيخ والقثاء، وفي رواية أخرى عنه أنه سئل عن اليقطين أهو القرع‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكنها شجرة سماها الله تعالى اليقطين أظلته‏.‏

وفي رواية عن ابن عباس أنه كل شيء ينبت ثم يموت من عامه، وفي أخرى كل شيء يذهب على وجه الأرض‏.‏

وقيل‏:‏ شجرة اليقطين هي شجرة الموز تغطي بورقها واستظل بأغصانها وأفطر على ثمارها، وقيل شجرة التين والأصح ما تقدم‏.‏

وروى عن قتادة أنه عليه السلام كان يأكل من ذلك القرع، وجاء في رواية عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ طرح بالعراء فأنبت الله تعالى عليه يقطينة فقيل له‏:‏ ما اليقطينة‏؟‏ قال‏:‏ شجرة الدباء هيأ الله تعالى له أروية وحشية تأكل من حشاش الأرض فتفسح عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبتت، وقيل‏:‏ إنه كان يستظل بالشجرة وتختلف إليه الأروية فيشرب من لبنها، وفي بعض الآثار أنها نبتت وأظلته في يومها‏.‏

أخرج أحمد في الزهد‏.‏ وغيره عن وهب أنه لما خرج من البحر نام نومة فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين وهي الدباء فأظلته وبلغت في يومها فرآها قد أظلته ورأى خضرتها فأعجبته ثم نام نومة فاستيقظ فإذا هي قد يبست فجعل يحزن عليها فقيل له‏:‏ أنت الذي لم تخلق ولم تسق ولم تنبت تحزن علهيا وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون ثم رحمتهم فشق عليك وهؤلاء هم أهل نينوى المعنيون بقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏

‏{‏وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

‏{‏وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ‏}‏ والإرسال على ما أخرج غير واحد عن مجاهد‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة هو الإرسال الأول الذي كان قبل أن يلتقمه الحوت فالعطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 139‏]‏ الخ على سبيل البيان لدلالته على ابتداء الحال وانتهائه وعلى ما هو المقصود من الإرسال من الايمان، واعترض بينهما بقصته اعتناء بها لغرابتها‏.‏ وأورد عليه أنه يأبى عن حمله على الإرسال الأول الفاء في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

‏{‏فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏148‏)‏‏}‏

‏{‏فَئَامِنُواْ‏}‏ فإن أولئك لم يؤمنوا عقيب إرساله الأول بل بعدما فارقهم‏.‏ وأجيب بأنه تعقيب عرفي نحو تزوج فولد له‏.‏

وقيل‏:‏ الأقرب أن الفاء للتفصيل أو السببية، وقيل هو إرسال ثان إليهم بعد أن أصابه فالعطف على ما عنده‏.‏

وأورد عليه أن المروي أنهم بعد مفارقته لهم رأوا العذاب أو خافوه فآمنوا فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَئَامِنُواْ‏}‏ في النظم الجليل هنا يأبى عن حمله على إرسال ثان‏.‏ وأجيب بأنه يجوز أن يكون الايمان المقرون بحرف التعقيب إيماناً مخصوصاً أو أن آمنوا بتأويل أخلصوا الايمان وجددوه لأن الأول كان إيمان باس، وقيل هو إرسال إلى غيرهم، وقيل‏:‏ إن الأولين بعد أن آمنوا سألوه أن يرجع إليهم فأبى لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيماً فيهم وقال لهم‏:‏ إن الله تعالى باعث إليكم نبياً‏.‏ وفي خبر طويل أخرجه أحمد في الزهد‏.‏ وجماعة عن ابن مسعود أنه عليه السلام بعد أن نبذ بالعراء وأنبت الله تعالى عليه الشجرة وحسن حاله خرج فإذا هو بغلام يرعى غنماً فقال‏:‏ ممن أنت يا غلام‏؟‏ قال‏:‏ من قوم يونس قال‏:‏ فإذا رجعت إليهم فاقرئهم السلام وأخبرهم أنك لقيت يونس فقال له الغلام‏:‏ إن تكن يونس فقد تعلم أنه من كذب ولم يكن له بينة قتل فمن يشهد لي‏؟‏ قال‏:‏ تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة فقال الغلام ليونس‏:‏ مرهما فقال لهما يونس‏:‏ إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له قالتا‏:‏ نعم فرجع الغلام إلى قومه وكان له إخوة فكان في منعة فأتى الملك فقال‏:‏ إني لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام فأمر به الملك أن يقتل فقال‏:‏ إن لي بينة فأرسل معه فانتهوا إلى الشجرة والبقعة فقال لهما الغلام نشدتكما بالله هل أشهدكما يونس قالتا‏:‏ نعم فرجع القوم مذعورين يقولون‏:‏ تشهد لك الشجرة والأرض فاتوا الملك فحدثوه بما رأوا فتناول الملك يد الغلام فاجلسه في مجلسه وقال‏:‏ أنت أحق بهذا المكان منى وأقام لهم أمرهم ذلك الغلام أربعين سنة، وهذا دال بظاهره أنه عليه السلام لم يرجع بعد أن أصابه ما أصابه إليهم فإن صح يراد بالإرسال هنا إما الإرسال الأول الذي تضمنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 139‏]‏ وإما إرسال آخر إلى غير أولئك القوم، والمعروف عند أهل الكتاب أنه عليه السلام لم يرسل إلا إلى أهل نينوى، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريباً تفصيل قصته عندهم؛ و‏{‏أَوْ‏}‏ على ما نقل عن ابن عباس بمعنى بل، وقيل‏:‏ بمعنى الواو وبها قرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما، وقيل‏:‏ للإبهام على المخاطب، وقال المبرد‏.‏ وكثير من البصريين‏:‏ للشك نظراً إلى الناظر من البشر على معنى من رآهم شك في عددهم وقال مائة ألف أو يزيدون والمقصود بيان كثرتهم أو أن الزيادة ليست كثيرة كثرة مفرطة كما يقال هم ألف وزيادة، وقال ابن كمال‏:‏ المراد يزيدون باعتبار آخر وذلك أن المكلفين بالفعل منهم كانوا مائة ألف وإذا ضم إليهم المراهقون الذين بصدد التكليف كانوا أكثر؛ ومن ههنا ظهر وجه التعبير بصيغة التجدد دون الثبات‏.‏

وتعقب بأنه مع أن المناسب له الواو تكلف ركيك، وأقرب منه أن الزيادة بحسب الإرسال الثاني ويناسبه صيغة التجدد وإن كانت للفاصلة، وهو معطوف على جملة ‏{‏أَرْسَلْنَا‏}‏ بتقديرهم يزيدون على ‏{‏مِاْئَةِ‏}‏ بتقدير أشخاص يزيدون أو تجريده للمصدرية فإنه ضعيف، والزيادة على ما روى عن ابن عباس ثلاثون ألفاً، وفي أخرى عنه بضعة وثلاثون ألفاً، وفي أخرى بضعة وأربعون ألفاً، وعن نوف‏.‏ وابن جبير سبعون ألفاً، وأخرى الترمذي‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن أبي بن كعب قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ‏}‏ قال‏:‏ يزيدون عشرين ألفاً، وإذا صح هذا الخبر بطل ما سواه‏.‏

‏{‏فمتعناهم‏}‏ بالحياة ‏{‏إلى حِينٍ‏}‏ إلى آجالهم المسماة في الأزل قاله قتادة‏.‏ والسدي، وزعم بعضهم أن تمتيعهم بالحياة إلى زمان المهدي وهم إذا ظهر من أنصاره فهم اليوم أحياء في الجبال والقفار لا يراهم كل أحد كالمهدي عند الإمامية والخضر عند بعض العلماء والصوفية، وربما يكشف لبعض الناس فيرى أحداً منهم وهو كذب مفتري، ولعل عدم ختم هذه القصة والقصة التي قبلها بنحو ما ختم به سائر القصص من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخرين سلام‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 78، 79‏]‏ الخ تفرقة بين شأن لوط‏.‏ ويونس عليهما السلام وشأن أصحاب الشرائع الكبر وأولى العزم من المرسلين مع الاكتفاء فيهما بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكور في آخر السورة ولتأخرهما في الذكر قرباً منه والله تعالى أعلم‏.‏

والمذكور في شأن يونس عليه السلام في كتب أهل الكتاب أن الله عز وجل أمره بالذهاب إلى دعوة أهل نينوى وكانت إذ ذاك عظيمة جداً لا تقطع إلا في نحو ثلاثة أيام وكانوا قد عظم شرهم وكثر فسادهم فاستعظم الأمر وهرب إلى ترسيس فجاء يافا فوجد سفينة يريد أهلها الذهاب بها إلى ترسيس فاستأجر وأعطى الأجرة وركب السفينة فهاجت ريح عظيمة وكثرت الأمواج وأشرفت السفينة على الغرق ففزع الملاحون ورموا في البحر بعض الأمتعة لتخف السفينة وعند ذلك نزل يونس إلى بطن السفينة ونام حتى علا نفسه فتقدم إليه الرئيس فقال له‏:‏ ما بالك نائماً‏؟‏ قم وادع إلهك لعله يخلصنا مما نحن فيه ولا يهلكنا، وقال بعضهم‏:‏ تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشر بسببه فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس فقالوا له‏:‏ أخبرنا ماذا عملت ومن أين أتيت وإلى أين تمضي ومن أي كورة أنت ومن أي شعب أنت‏؟‏ فقال لهم‏:‏ أنا عبد البر إله السماء خالق البر والبحر وأخبرهم خبره فخافوا خوفاً عظيماً‏.‏

وقالوا له‏:‏ لم صنعت ما صنعت يلومونه على ذلك ثم قالوا له‏:‏ ما نصنع الآن بك ليسكن البحر عنا‏؟‏ فقال‏:‏ ألقوني في البحر يسكن فإنه من أجلي صار هذا الموج العظيم فجهد الرجال أن يردوها إلى البر فلم يستطيعوا فأخذوا يونس وألقوه في البحر لنجاة جميع من في السفينة فسكن البحر وأمر الله تعالى حوتاً عظيماً فابتلعه فبقي في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليال وصلى في بطنه إلى ربه واستغاث به، فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليبس ثم قال عز وجل له‏:‏ قم وامض إلى نينوى وناد في أهلها كما أمرتك من قبل فمضى عليه السلام ونادى وقال‏:‏ تخسف نينوى بعد ثلاثة أيام فآمنت رجال نينوى بالله تعالى ونادوا بالصيام ولبسوا المسوح جميعاً ووصل الخبر إلى الملك فقام عن كرسيه ونزع حلته ولبس مسحاً وجلس على الرماد ونودي أن لا يذق أحد من الناس والبهائم طعاماً ولا شراباً وجأروا إلى الله تعالى ورجعوا عن الشر والظلم فرحهمهم الله تعالى فلم ينزل بهم العذاب فحزن يونس وقال‏:‏ إلهي من هذا هربت فإني علمت أنك الرحيم الرؤوف الصبور التواب يا رب خذ نفسي فالموت خير لي من الحياة فقال‏:‏ يا يونس حزنت من هذا جداً‏؟‏ فقال‏:‏ نعم يا رب وخرج يونس وجلس مقابل المدينة وصنع له هناك مظلة وجلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة فأمر الله تعالى يقطيناً فصعد على رأسه ليكون ظلاً له من كربه فرح باليقطين فرحاً عظيماً وأمر الله تعالى دودة فضربت اليقطين فجف ثم هبت ريح سموم وأشرقت الشمس على رأس يونس عليه السلام فعظم الأمر عليه واستطيب الموت فقال له الرب‏:‏ يا يونس أحزنت جداً على اليقطين‏؟‏ فقال‏:‏ نعم يا رب حزنت جداً فقال سبحانه‏:‏ حزنت عليه وأنت لم تتعب فيه ولم تربه بل صار من ليلته وهلك من ليلته فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة التي فيها سكان أكثر من اثني عشر ربوة من الناس قوم لا يعلمون يمينهم ولا شمالهم وبهائمهم كثيرة انتهى، وفيه من المخالف للحق ما فيه؛ ولتطلع على حاله نقلته لك وكم لأهل الكتاب من باطل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏149‏]‏

‏{‏فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ‏(‏149‏)‏‏}‏

‏{‏فاستفتهم أَلِرَبّكَ البنات وَلَهُمُ البنون‏}‏ أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في صدور السورة الكريمة بتبكيت قريش وإبطال مذهبهم في إنكار البعث بطريق الاستفتاء وساق البراهين الناطقة بتحققه لا محالة وبين وقوعه وما يلقونه عند ذلك من فنون العذاب واستثنى منهم عباده المخلصين وفصل سبحانه ما لهم من النعيم المقيم، ثم ذكر سبحانه أنه قد ضل من قبلهم أكثر الأولين وأنه تعالى أرسل إلهيم منذرين على وجه الإجمال، ثم أورد قصص بعض الأنبياء عليهم السلام بنوع تفصيل متضمناً كل منها ما يدل على فضلهم وعبوديتهم له عز وجل، ثم أمره صلى الله عليه وسلم ههنا بتبكيتهم بطريق الاستفتاء عن وجه ما تنكره العقول بالكلية وهي القسمة الباطلة اللازمة لما كانوا عليه من الاعتقاد الزائغ حيث كانوا يقولون كبعض أجناس العرب جهينة‏.‏ وسليم‏.‏ وخزاعة‏.‏ وبني مليح‏:‏ الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، ثم بتبكيتهم بما يتضمنه كفرهم المذكور من الاستهانة بالملائكة عليهم السلام بجعلهم إناثاً، ثم أبطل سبحانه أصل كفرهم المنطوي على هذين الكفرين وهو نسبة الولد إليه سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، ولم ينظمه سبحانه في سلك التبكيت لمشاركتهم اليهود القائلين عزيز ابن الله والنصارى المعتقدين عيسى ابن الله تعالى الله عن ذلك، والفاء قيل لترتيب الأمر على ما يعلم مما سبق من كون أولئك الرسل إعلام الخلق عليهم السلام عباده تعالى فإن ذلك مما يؤكد التبكيت ويظهر بطلان مذهبهم الفاسد فكأنه قيل‏:‏ إذا كان رسل ربك من علمت حالهم فاستخبر هؤلاء الكفرة عن وجه كون البنات وهن أوضع الجنسين له تعالى بزعمهم والبنين الذين هم أرفعهما لهم فإنهم لا يستطيعون أن يثبتوا له وجهاً لأنه في غاية البطلان لا يقوله من له أدنى شيء من العقل، وقال بعض الأجلة‏:‏ الكلام متصل بقوله تعالى في أول السورة ‏{‏فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 11‏]‏ على أن الفاء هنا للعطف على ذاك، والتعقيب لأنه أمر بهما من غير تراخ، وهي هناك جزائية في جواب شرط مقدر، وبهذا القول أقول‏.‏ وأورد عليه أبو حيان أن فيه الفصل الطويل وقد استقبح النحاة الفصل بجملة نحو أكلت لحماً واضرب زيداً وخبزاً فما ظنك بالفصل بجمل بل بما يقرب من سورة‏.‏ وأجيب بأن ما ذكر في عطف المفردات وأما الجمل فلاستقلالها يغتفر لها ذلك، والكلام هنا لما تعانقت معانيه وارتبطت مبانيه وأخذ بعضها بحجز بعض حتى كأن الجميع كلمة واحدة لم يعد البعد بعداً كما قيل‏.‏ وليس يضير البعد بين جسومنا *** إذا كان ما بين القلوب قريباً

ووجه ترتب المعطوف على ما قبل كوجه ترتب المعطوف عليه فإن كونه تعالى رب السموات والأرض وتلك الخلائق العظيمة كما دل على وحدته تعالى وقدرته عز وجل دال على تنزهه سبحانه عن الولد، ألا ترى إلى قوله جل شأنه‏:‏

‏{‏بَدِيعُ السموات والارض *أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 101‏]‏ والمناسبة بين الرد على منكري البعث والرد على مثبتي الولد ظاهرة، وقد اتحد في الجملتين السائل والمسؤول والأمر؛ وجوز بعضهم كون ضمير ‏{‏استفتهم‏}‏ للمذكورين من الرسل عليهم السلام والبواقي لقريش، والمراد الاستفتاء ممن يعلم أخبارهم ممن يوثق بهم ومن كتبهم وصحفهم أي ما منهم أحد إلا وينزه الله تعالى عن أمثال ذلك حتى يونس عليه السلام في بطن الحوت، ولعمري أن الرجل قد بلغ الغاية من التكلف من غير احتياج إليه، ولعله لو استغنى عن ارتكاب التجوز بالتزام كون الاستفتاء من المرسلين المذكورين حيث يجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم اجتماعاً روحانياً كما يدعيه لنفسه الشيخ محيي الدين قدس سره مع غير واحد من الأنبياء عليهم السلام ويدعي أن الأمر بالسؤال المستدعي للاجتماع أيضاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن ءالِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏ على هذا النمط لكان الأمر أهون وإن كان ذلك منزعاً صوفياً‏.‏

وأضيف الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام دون ضميرهم تشريفاً لنبيه صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى أنهم في قولهم بالبنات له عز وجل كالنافين لربوبيته سبحانه لهم

‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏150‏]‏

‏{‏أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إناثا‏}‏ إضراب وانتقال من التبكيت بالاستفتاء السابق إلى التبكيت بهذا أي بل أخلقنا الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق وأقواهم وأعظمهم تقدساً عن النقائص الطبيعية إناثاً والأنوثة من أخس صفات الحيوان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُمْ شاهدون‏}‏ استهزاء بهم وتجهيل لهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19‏]‏ فإن أمثال هذه الأمور لا تعلم إلا بالمشاهدة إذ لا سبيل إلى معرفتها بطريق العقل وانتفاء النقل مما لا ريب فيه فلا بد أن يكون القائل بأنوثتهم شاهداً عند خلقهم، والجملة إما حال من فاعل ‏{‏خَلَقْنَا‏}‏ أي بل أخلقناهم إناثاً والحال أنهم حاضرون حينئذ أو عطف على ‏{‏خَلَقْنَا‏}‏ أي بل أهم شاهدون‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏151 - 152‏]‏

‏{‏أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ‏(‏151‏)‏ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

‏{‏أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله‏}‏ استئناف من جهته تعالى غير داخل تحت الاستفتاء مسوق لإبطال أصل مذهبهم الفاسد ببيان أن مبناه ليس إلا الإفك الصريح والافتراء القبيح من غير أن يكون لهم دليل أو شبهة ‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ فيما يتدينون به مطلقاً في هذا القول، وفيه تأكيد لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِّنْ إِفْكِهِمْ‏}‏ وقرء ‏{‏وَلَدَ الله‏}‏ بالإضافة ورفع ولد على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ليقولون الملائكة ولد الله والولد فعل بمعنى مفعول يقع على المذكر والمؤنث والواحد والجمع ولذا وقع هنا خبراً عن الملائكة المقدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

‏{‏أَصْطَفَى البنات على البنين‏}‏ بهمزة مفتوحة هي حرف استفهام حذفت بعدها همزة الوصول والاستفهام للإنكار والمراد إثبات إفكهم وتقرير كذبهم، والإصطفاء أخذ صفوة الشيء لنفسه‏.‏

وقرأ نافع في رواية إسمعيل‏.‏ وابن جماز‏.‏ وجماعة‏.‏ وإسماعيل عن أبي جعفر‏.‏ وشيبة ‏{‏اصطفى‏}‏ بكسر الهمزة وهي همزة الوصل وتكسر إذا ابتدىء بها وخرجت على حذف أداة الاستفهام لدلالة أم بعد وإن كانت منقطعة غير معادلة لها لكثرة استعمالها معها، وجوز إبقاء الكلام على الإخبار إما على إضمار القول أي لكاذبون في قولهم اصطفى الخ أو يقولون اصطفى الخ على ما قيل‏:‏ أو على الإبدال من قولهم ولد الله أو الملائكة ولد الله وليس دخيلاً بين نسيبين، والأولى التخريج على حذف الأداة وحسم البحث فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

‏{‏مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ بهذا الحكم الذي تقضي ببطلانه بداهة العقول والالتفات لزيادة التوبيخ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏155‏]‏

‏{‏أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏155‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ بحذف أحد التاءين من تتذكرون‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف تذكرون بسكون الذال وضم الكاف من ذكر‏.‏ والفاء للعطف على مقدر أي تلاحظون ذلك فلا تتذكرون بطلانه فإنه مركوز في عقل كل ذكي وغبي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏156‏]‏

‏{‏أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ‏(‏156‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ‏}‏ إضراب وانتقال من توبيخهم وتبكيتهم بما ذكر بتكليفهم ما لا يدخل تحت الوجود أصلاً أي بل ألكم حجة واضحة نزلت من السماء بأن الملائكة بناته تعالى ضرورة أن الحكم بذلك لا بد له من سند حسي أو عقلي وحيث انتفى كلاهما فلا بد من سند نقلي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏157‏]‏

‏{‏فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

‏{‏فَأْتُواْ بكتابكم‏}‏ الناطق بصحة دعواكم ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ فيها، والأمر للتعجيز، وإضافة الكتاب إليهم للتهكم، وفي الآيات من الأنباء عن السخط العظيم والإنكار الفظيع لأقاويلهم والاستبعاد الشديد لأباطيلهم وتسفيه أحلامهم وتركيك عقولهم وأفهامهم مع استهزاء بهم وتعجيب من جهلهم ما لا يخفى على من تأمل فيها

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً‏}‏ التفات إلى الغيبة للإيذان بانقطاعهم عن الجواب وسقوطهم عن درجة الخطاب واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم وتحكي لآخرين جناياتهم، واستظهر أن المراد بالجنة الشياطين وأريد بالنسب المجعول المصاهرة‏.‏

أخرج آدم بن أبي أياس‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وغيرهم عن مجاهد قال‏:‏ قال كفار قريش الملائكة بنات الله تعالى فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي على سبيل التبكيت‏:‏ فمن أمهاتهم‏؟‏ فقالوا‏:‏ بنات سروات الجن وروى هذا ابن أبي حاتم عن عطية، أو أريد جعلوا بينه سبحانه وبينهم مناسبة حيث أشركوهم به تعالى في استحقاق العبادة وروى هذا عن الحسن، وقيل إن قوماً من الزنادقة يقولون الله عز وجل وإبليس عليه اللعنة أخوان فالله تعالى هو الخير الكريم وإبليس هو الشرير اللئيم وهو المراد بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ‏}‏ الخ وحكى هذا الطبرسي عن الكلبي، وقال الإمام الرازي‏:‏ وهذا القول عندي أقرب الأقاويل وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن ويعبرون عنهما بالنور والظلمة، ويبعد هذا القول عندي أن الظاهر أن ضمير ‏{‏جَعَلُواْ‏}‏ كالضمائر السابقة لقريش ولم يشتهر ذلك عنهم بل ولا عن قبيلة من قبائل العرب وليس المقام للرد على الكفرة مطلقاً‏.‏

وأخرج غير واحد عن مجاهد‏.‏ وعبد بن حميد عن عكرمة‏.‏ وابن أبي شيبة عن أبي صالح أن المراد بالجنة الملائكة، وحكاه في «مجمع البيان» عن قتادة واختاره الجبائي، والمراد بالجعل المذكور ما تضمنه قولهم الملائكة بنات الله، وأعيد تمهيداً لما يعقبه، وهو مبني على أن الجن والملك جنس واحد مخلوقون من عنصر واحد وهو النار لكن من كان من كثيفها الدخاني فهو شيطان وهو شرذ وتمرد ومن كان من صافي نورها فهو ملك وهو خير كله، ووجه التسمية بالجن الاستتار عن عيوننا فالجن والجنة بمعنى مفعول من جنه إذا ستره، ويكون على هذا تخصيص الجن بأحد نوعيه تخصيصاً طارئاً كتخصيص الدابة، وعلى الأصل جاء ما هنا، ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نوعاً من الملائكة عليهم السلام يسمى الجن ومنهم إبليس؛ وعبر عن الملائكة بالجنة حطا لهم مع عظم شأنهم في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم في قولهم ذلك، وقد يقال‏:‏ إن الاستتار كالداعي لهم إلى ذلك الزعم الباطل بناء على توهمهم بأنه إنما يليق بالإناث فقالوا‏:‏ لو لم يكونوا بناته سبحانه وتعالى لما سترهم عن العيون فلذا عبر عنهم بالجنة‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ‏}‏ أي والله لقد علمت الشياطين أي جنسهم إن الله تعالى يحضرهم ولا بد النار ويعذبهم بها ولو كانوا مناسبين له تعالى شركاء في استحقاق العبادة أو التصرف لما عذبهم سبحانه فضمير ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ للجنة على ما عدا الوجه الأخير من الأجه السابقة وإما عليه فهو للكفرة أي والله لقد علمت الملائكة الذين جعلوا بينه تعالى وبينهم نسباً وقالوا هم بناته أن الكفرة لمحضرون النار معذبون بها لكذبهم وافترائهم في قولهم ذلك، والمراد به المبالغة في التكذيب ببيان أن الذين يدعى لهم هؤلاء تلك النسبة ويعلمون أنهم أعلم منهم بحقيقة الحال يكذبونهم في ذلك ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكماً مؤكداً، ويجوز على الأجه الأول عود الضمير على الكفرة أيضاً والمعنى على نحو ما ذكر، وعلم الملائكة أن الكفرة معذبون ظاهر، وعلم الشياطين بأنهم أنفسهم وكذا سائر الكفرة معذبون لما أن الله عز وجل توعد إبليس عليه اللعنة بما يدل على ذلك‏.‏ ‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏